الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)
.مقدمة: قال علماء التفسير المراد بالكتاب والميزان العلم والعدل وكانت مباشرة هذا الأمر من الله بنفسه من غير واسطة وسبب على خلاف ترتيب المملكة وقانون الحكمة، فاستخلف فيها من الآدميين خلائف ووضع في قلوبهم العلم والعدل ليحكموا بهما بين الناس حتى يصدر تدبيرهم عن دين مشروع وتجتمع كلمتهم على رأي متبوع، ولو تنازعوا في وضع الشريعة لفسد نظامهم واختل معاشهم. فمعنى الخلافة هو أن ينوب أحد مناب آخر في التصرف واقفا على حدود أوامره ونواهيه، وأما معنى العدالة فهي خلق في النفس أو صفة في الذات تقتضي المساواة لأنها أكمل الفضائل لشمول أثرها وعموم منفعتها كل شيء، وإنما يسمى الإنسان عادلا لما وهبه الله قسطا من عدله وجعله سببا وواسطة لإيصال فيض فضله واستخلفه في أرضه بهذه الصفة حتى يحكم بين الناس بالحق والعدل، كما قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}. وخلائف الله هم القائمون بالقسط والعدالة في طريق الاستقامة ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، والعدالة تابعة للعلم بأوساط الأمور المعبر عنها في الشريعة بالصراط المستقيم. وقوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، إشارة إلى أن العدالة الحقيقية ليست ألا لله تعالى فهو العادل الحقيقي الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ووضع كل شيء على مقتضى علمه الكامل وعدله الشامل. وقوله صلى الله عليه وسلم: «بالعدل قامت السموات والأرض»، إشارة إلى عدل الله تعالى الذي جعل لكل شيء قدراً لو فرض فارض زائداً عليه أو ناقصاً عنه لم ينتظم الوجود على هذا النظام بهذا التمام والكمال. .أصناف العدل من الخلائق: .الأول: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: .الثاني: العلماء الذين هم ورثة الأنبياء: .الثالث: الملوك وولاة الأمور: فلولا قانون السياسة وميزان العدالة لم يقدر مصل على صلاته ولا عالم على نشر علمه ولا تاجر على سفره، فإن قيل: فما حد الملك العادل؟ قلنا: هو ما قال العلماء بالله من عدل بين العباد وتحذر عن الجور والفساد، حسبما ذكره رضى الصوفي في كتابه المسمى بقلادة الأرواح وسعادة الأفراح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة قيام ليلها وصيام نهارها». وفي حديث آخر: «والذي نفس محمد بيده إنه ليرفع للملك العادل إلى السماء مثل عمل الرعية وكل صلاة يصليها تعدل سبعين ألف صلاة»، وكأن الملك العادل قد عبد الله بعبادة كل عابد وقام له بشكر كل شاكر، فمن لم يعرف قدر هذه النعمة الكبرى والسعادة العظمى واشتغل بظلمه وهواه يخاف عليه بان يجعله الله من جملة أعدائه، وتعرض إلى أشد العذاب، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أبغض الناس إلى الله تعالى وأشدهم عذابا يوم القيامة إمام جائر». فمن عدل في حكمه وكف عن ظلمه نصره الحق وأطاعه الخلق وصفت له النعمى وأقبلت عليه الدنيا، فتهنأ بالعيش واستغنى عن الجيش، وملك القلوب وأمن الحروب، وصارت طاعته فرضا وظلت رعيته جنداً لأن الله تعالى ما خلق شيئا أحلى مذاقا من العدل ولا أروح إلى القلوب من الأنصاف ولا أمر من الجور ولا أشنع من الظلم. فالواجب على الملك وعلى ولاة الأمور أن لا يقطع في باب العدل ألا بالكتاب والسنة، لأنه يتصرف في ملك الله وعباد الله بشريعة نبيه ورسوله نيابة عن تلك الحضرة ومستخلفا عن ذلك الجناب المقدس، ولا يأمن من سطوات ربه وقهره فيما يخالف أمره فينبغي أن يحترز عن الجور والمخالفة والظلم والجهل، فانه أحوج الناس إلى معرفة العلم وأتباع الكتاب والسنة وحفظ قانون الشرع والعدالة، فإنه منتصب لمصالح العباد وإصلاح البلاد وملتزم بفصل خصوماتهم وقطع النزاع بينهم، وهو حامي الشريعة بالإسلام، فلا بد من معرفة أحكامها والعلم بحلالها وحرامها ليتوصل بذلك إلى إبراء ذمته وضبط مملكته وحفظ رعيته، فيجتمع له مصلحة دينه ودنياه وتمتلئ القلوب بمحبته والدعاء له، فيكون ذلك أقوم لعمود ملكه وأدوم لبقائه وأبلغ الأشياء في حفظ المملكة العدل والأنصاف على الرعية. وقيل لحكيم: أيهما أفضل العدل أم الشجاعة؟ فقال: من عدل استغنى عن الشجاعة لأن العدل أقوى جيش وأهنأ عيش. وقال الفضيل بن عياض: النظر إلى وجه الإمام العادل عبادة، وأن المقسطين عند الله على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن. قال: سفيان الثوري: صنفان إذا صلحا صلحت الأمة وإذا فسدا فسدت الأمة: الملوك والعلماء. والملك العادل هو الذي يقضي بكتاب الله عز وجل ويشفق على الرعية شفقة الرجل على أهله. روى ابن يسار عن أبيه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيما وال ولي من أمر أمتي شيئا فلم ينصح لهم ويجتهد كنصيحته وجهده لنفسه كبه الله على وجهه يوم القيامة في النار».
|